أثار اعتراف الرئيس ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان جدل سياسي وقانوني، هذا القرار الذي أعتبر هدية لنتانياهو عشية دخوله السباق الانتخابي، الاعتراف المنسق بين الطرفين يعني تأكيد الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل، كما أنّها ترسم صورة لسياسات الرئيس ترامب في منطقة الشرق الأوسط وتنبيهاً لروسيا وإيران وحزب الله.
هذا القرار كان نتيجة لمقدّمات سياسة ترامب في المنطقة، فأوّل زيارة لدونالد ترامب بعد توليه الرئاسة بدأت بالسعودية، كانت رحلة خارجية استمرت لمدّة ثمانية أيّام، اتّضحت أهميّة الشرق الأوسط في عقيدة ترامب، وقد ألقى خطاباً في المملكة العربية السعودية حظي بمقبولية واسعة في الأوساط الأمريكية، هذا الخطاب أشبه بخطاب تصالحي حواري مع الإسلام وإن كان شكلياً.
كما أنّ ترامب عقد في هذه الزيارة اتفاقات أسلحة ضخمة مع السعودية، وحاول تشكيل أوّل خطوات تحالف إقليمي جديد لمواجهة داعش وعزل إيران في المنطقة، كما كان اشتعال الخلاف الخليجي - القطري والذي يبدو أنّه جاء نتيجة زيارة ترامب للمملكة وضع الرئيس أوّل خطواته لمواجهة خطر الإخوان المسلمين عبر الضغط على قطر وتركيا بعد الزيارة الفاشلة لأردوغان إلى واشنطن قبل زيارة ترامب للشرق الأوسط وعدم مشاركة أردوغان القمم الثلاثة التي عقدت، وابتعاث وزير الخارجية للمشاركة الهامشية.
ثمّ بعد ذلك، زار الأراضي الفلسطينية المحتلة من إسرائيل، ورغم أنّ المجتمع الدولي والداخل الأمريكي استقرأ تلك الزيارة بإيجابية عالية لكن ترامب لم يفعل شيئاً سوى إنّه وعد بإطلاق جهود جديدة لإقامة سلام إسرائيلي - فلسطيني. والتزم بحماية أمريكية لإسرائيل ووعد بزيادة المساعدات الأمريكية لها وطمأنة إسرائيل بالإبقاء على التفوق العسكري في المنطقة.
كان التصعيد السعودي الخليجي ضد قطر، وبرود علاقة أمريكا بتركيا أوّل تحوّل لإستراتيجية ترامب تجاه المنطقة. أمّا الأوضاع في اليمن فحافظ ترامب على أوضاع سلفه أوباما بدعم الإمارات والسعودية لاستمرار الحرب فيها، وهذه تضمن مخاطر محتملة لصراعات مفتوحة داخلية وإقليمية، وكما اتّضح من خلال زيارة السعودية أنّ هنالك تحركاً حثيثاً في السعودية لإحداث تغيير في هيكل الحكم وصعود محمّد بن سلمان، ممّا يفتح جرحاً عميقاً في السعودية ينعكس على استقرارها واستقرار المنطقة إن حصلت هنالك تداعيات داخلية.
محاور سياسات ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط
من الممكن وصف سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد عامين على رئاسته بالكارثية وخاصّة على مستوى السياسة الخارجية وتحديداً إزاء منطقة الشرق الأوسط.
تتلخص السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط على ثلاثة محاور:
أوّلاً: محاربة الإرهاب (حسب وجهة نظرها)، وتثبيت عملية السلام، وإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، ومحاربة النفوذ الإيراني.
في المحور الأوّل: تتبع الولايات المتحدة أسلوب القوّة الخشنة في مواجهة الإرهاب، وهي أكثر تحركاً من إدارة أوباما سواء في إسهامها بالتحالف الدولي في العراق أو موقفها من الأزمة السورية واستمرار استهدافها لتنظيم القاعدة في اليمن، فالموصل تحرّرت بعد مجيء ترامب، وكذلك الرقة السورية، والآن دير الزور بعد تحرير آخر معقل لداعش في الباغوز من قبل قوات سوريا الديمقراطية، بغض النظر عن النوايا وحجم المشاركة رغم الانسحاب الأمريكي من سوريا، لكن لا يمكن أن يُقاس عهد أوباما بعهد ترامب خاصّة أنّ الأخير اتّهم سلفه بصناعة تنظيم داعش وأنّه عازم على إنهائه. ولكن إذا كان هدف مكافحة الإرهاب في تلك المنطقة طريقاً لإحلال السلام فما هي البدائل لتثبيت الاستقرار والسلام؟.
البدائل تجسّدت بتدشين قطيعة مع سبعة دول عربية وإسلامية ومنعها من دخول الولايات المتحدة ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بهضبة الجولان كأراضي خاضعة للسيادة الإسرائيلية، وهذه خطوات لا تؤدِّي إلى السلام بل إلى التفاوض بالصواريخ بين حماس وإسرائيل، وأضحى الواقع أكثر احتقاناً قد تلعب فيه صراعات الأديان والأعراق دوراً محورياً فيه.
في المحور الثاني: تلخصت عملية صنع السلام في الشرق الأوسط بخطوات لا تسهم بإحلاله بل بمفاقمته، وهنا تتعارض توجهات ترامب بالمحور الأوّل ويجعل موضوع تنشيط الجماعات المسلحة والإرهابية أكثر حضوراً، ترامب أختار السعودية والملك سلمان وولي عهده محمّد بن سلمان لقيادة هذه العملية القائمة على أساس التطبيع مع اقتران هذه السياسة باستحواذها على أموال هذه الدول وزرع الخلافات بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة، وقطر من جهة أُخرى، ودعم هذا المحور لمواجهة المحاور المعارضة للتوجهات الأمريكية الرافضة لعملية السلام وضمان أمن إسرائيل والاستفادة من هذه الخلافات لمراكمة الحصول على أكبر قدر من المكاسب والأموال والصفقات، وهذا ما حصل فعلاً. لكن نشوة هذه السياسة لم تؤتِ ثمارها بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية للقدس ضرب مغزى السلام، وحرك الصراع العربي - الإسرائيلي رغم تنامي دول التطبيع علانيةً وسراً، إلّا أنّ المواقف الدولية والعربية الدبلوماسية وقفت ضد قرار ترامب ولم تساند أمريكا إلّا ثمانية دول غير معروفة، وهذا سيحصل أيضاً إزاء قراره الأخير بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان.
أمّا المحور الثالث: لم يخفِ ترامب تصعيده ضد إيران وأوّل ما فعله انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني وتحريك مندوبته في مجلس الأمن بالتصعيد ضد إيران في كلّ مناسبة، وكذا الحال في دعم الاحتجاجات الأخيرة في إيران ومحاولة تدويلها في مجلس الأمن، وعلى صعيد الواقع أيضاً لا يروق لأمريكا ترامب أن تتمدد إيران في العراق عبر بوابة الحشد الشعبي، وهي تعمل جاهدة لمواجهة هذا النفوذ والتمدد سياسياً وقد تلجأ للمواجهة العسكرية غير المباشرة مع الحشد (خاصّة بعد زيارته لقاعدة عين الأسد في العراق وإعلانه من هناك بقاء قواته في العراق واستخدام القواعد العسكرية منصة للقيام بضربات في سوريا ومناطق أُخرى إذا تطلب الأمر)، في أي وقت تشعر فيه أمريكا بالخطر على مصالحها في العراق.
أمّا في سوريا، فهنالك مَن يقول أنّ أمريكا لا تمتلك إستراتيجية واضحة فيها، فترامب قرر التدخل وإنزال جنود المارينز والعمليات الخاصّة في الرقة والتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية وكان بصدد إنشاء حرس حدود أو أمن داخلي لأكثر من ثلاثة آلاف متطوّع من هذه القوات لرسم معالم كيان كُردي مستقل على الحدود التركية مع تنسيق الأوضاع مع روسيا في تقاسم النفوذ وهنا أثّر هذا التدخل على الحليف التركي ودفعه للتقارب مع الروس والإيرانيين اللذان خذلا أردوغان في إدلب وضربا اتفاقيات خفض التوتر والتصعيد عرض الحائط، ممّا يؤشر على أنّ تركيا الخاسر الأكبر من سياسة مواجهة محور المقاومة وإيران في سوريا، لكنّه انسحب منها بشكل مفاجئ وعمل على احتواء تركيا لجرها من التقارب مع إيران وروسيا وتخلى عن حلفاءه الأكراد.
أمّا مواجهة إيران في الساحة اليمنية فقد حاولت أن تؤدِّي أمريكا دوراً محورياً في محاربة القاعدة بطائراتها المسيرة في حضرموت ومأرب واستمرت بدعم الصراع العربي بقيادة السعودية والإمارات ضد أنصار الله الحوثيين وتغذيته لصالح التحالف لإضعاف الكماشة الإيرانية الداعمة للحوثيين وإشغالها في هذه الساحة المعقدة وحرفها عن بؤرة الصراع مع إسرائيل، لكنّ هذه السياسة انحسرت بعد مشاورات ستوكهولم في السويد، وشكّلت تراجعاً أمريكياً واضحاً في الانخراط بالملف اليمني قياساً بعهد أوباما.
أمّا في لبنان تشجع أمريكا ترامب الانقسامات السياسية ولم تدعم خيار الانتخابات وتشكيل الحكومة وسمحت بتحوير موقع الصراع بين حزب الله وإسرائيل إلى جهة التخالف بين المكوّنات عبر تجذير الخطاب الطائفي وما أزمة سعد الحريري واحتجازه في الرياض إلّا مصداق لذلك، فنعلم أنّ السعودية لا تخطو خطوة دون موافقة واشنطن.
الخلاصة
ما يمكن استخلاصه من سياسات الرئيس ترامب، إنّ إيران ومحاربة نفوذها لحماية أمن إسرائيل، واستمرار تدجين السعودية ودول الخليج، وتنسيق المواقف لصفقة القرن المنتظرة، هي أهم أقطاب الإستراتيجية الأمريكية، وبقية التفاعلات في سوريا والعراق واليمن ولبنان والأردن ومصر، وبقية الدول تقع في هذا الاتجاه.
إنّ هذه السياسات إضافة إلى سياساته تجاه دول أوروبا وأمريكا الشمالية والصين وروسيا وسياساته الداخلية، جعلت المراقبين يقيمون ويتنبئون بتراجع مكانة الولايات المتحدة كهنري كيسنجر الذي قال: «إنّ بريق أمريكا يتضاءل مع الرئيس ترامب، ووصف أفعاله بأنّها غريبة. إذ يكاد ضوء المصباح الأمريكي أن ينطفئ شرق أوسطياً وعربياً وإسلامياً من جراء قرارات سياسية فوقية تمثّل طعنات قاتلة لمليار ونصف أو أكثر من مسلمي العالم»، كإعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان تلك التي تضرب بالآخرين عرض الحائط، مستندة إلى القوّة الخشنة الأمريكية.
من هذا كلّه يتّضح، إنّ دعم ترامب ووصوله للرئاسة لا يمثّل إلّا مصالح لوبيات وتجمعات المال والنفط والأسلحة والتيارات اليمينية الأصولية المتشدّدة ومصالح إسرائيل، وهذه التوجهات هي التي جعلت من وصوله للبيت الأبيض مسألة قاتلت عليها تلك النُّخب العنصرية، لأنّ توجهاته ترتبط أوّلاً بمصالحهم الشخصية، قبل الحديث والبحث عن مصالح العالم.
في ظل إدارة ترامب، يبدو أنّ واشنطن في العديد من سياساتها الخارجية والداخلية سترسخ خيارات مخيفة لتأريخ الديمقراطية والليبرالية الناظمة للمجتمع الأمريكي وتدفع لتبنّي مفهوم يجعل أمريكا تسير ضد العالم برمته، وهو طرح خيار يتعارض ويتنافى مع صورة أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية في أوّل سنتين من رئاسة لدونالد ترامب.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق